قصة قصيرة: أ.أ

تجاوزت موعد نومي وأنا أجلس على كرسي بلاستيكي في الشرفة أفكر واترقب أمراً جديدًا وغريبًا بالنسبة لي. الساعة تشير إلى الحادية عشر وخمسون دقيقة مساءً، ومع مرور كل دقيقة من الوقت كنت أفكر، حتى أستنتجت أمراً من التفكير، وهو أن كل شخص لديه قصة فريدة ومميزة عن الأخرين وليس شرطًا أن تكون قصته أنه أكتشف إختراعاً جديدًا أو تسلق قمة لم يتسلقها شخص قبله أو أن إمرأةً فقيرة وقعت في حب ملك، فكل شخص قد عاش قصة عادية بسيطة تستحق أن تروى تحت عنوان قصص أشخاص عاديون جداً. لم أتسلق جبلاً ولم أضيع في غابة ولم أساعد الفقراء ولم أكن بطلة، فأنا ببساطة أجلس في شرفتي مترقبة دخول اليوم الجديد الذي يتوافق تاريخه مع ذكرى مرور عقد وعام على صداقة رقمية مع شخص يدعى أ.أ وقصتي هي كالتالي:

“هل تحبين أم علي؟” كان هذا أول سؤال يسألني هو صديقي الرقمي أ.أ في محادثة على الفيسبوك عندما كنت في السابعة عشر من عمري، وكتبت أسمه بهذا الشكل “ألف ألف” لا لأضيف حس من الغموض على القصة بل لأن تعارفنا كان عن طريق حساب للكتب في الفيسبوك كان يديره أ.أ. وعندما تحدثنا وسألته عن أسمه كتب لي هذا الاختصار ولم يخبرني عن إسمه فأحترمت رغبته في السرية والخصوصية ولم أصر على معرفة اسمه في بداية الأمر، ووجدت أن ألف ألف كما كتب لي كافية ووافية. أطلقت عليه بعد ذلك اسماً خاصاً ولم يمانع هو ابداً من تسميتي له بأسم غير أسمه، بل أحب الأسم ووجده لائقًا له. أسميته “عزيز” لأنه أصبح عزيزاً جداً.

سأرجع إلى سؤاله عن أم علي، عندما سألني عنها لم أكن أعرف ماهيتها فسألته: ومن تكون هذه؟ فأرسل وجوه كثيرة تضحك في المحادثة. لم أفهم وقتها سبب الضحك، فأرسل لي بعدها صورة طبق دائري به باشاميل، ونعم جهلاً مني بأم علي كنت أحسبها باشاميل بمجرد أن رأيت صورتها. كتب لي “هذا حلى أم علي ولا أصدق أنك لا تعرفينها لأن هذا يعني أنكِ لم تأكلينها قط!!!” فأخبرته أنني بالفعل لم آكلها قط من قبل، ثم أدهشني عندما أخبرني بأنه يأكل أم علي خمسة مرات في الأسبوع الواحد، ففهمت لماذا كان هذا السؤال هو أول سؤال خطر في باله أن يسألني عنه، وعرفت أيضاً أن نقطة ضعف صديقي الرقمي أ.أ هي أم علي. لم أجد الراحة وقتها إلا بعد أن جربت و تذوقت أم علي التي أشتريتها من السوبرماركت، وأريد أن أخبركم بسر صغير وهو أنني لم أجدها لذيذة، لكنني لم أخبره بهذا السر، فأنا لم أرد لرأيي أن يكون سبب في تنغيص متعته البسيطة.

صداقتي أنا و أ.أ لم تكن تشبه أي صداقة أو على الأقل هذا ما أعتقدناه، فأي اثنان يتحادثان في العالم الرقمي ينتهي بهم الحال بأن يلتقيا في أرض الواقع، إلا أنا وهو بالرغم من أننا نعيش في مدن قريبة من بعضها والتي كنا نطلق عليها ديستوبيا، إلا أننا لم نكن نفكر مثل الآخرين، لم نكن نفكر أن نلتقي في ديستوبيا لأننا كنا نعيش في يوتوبيا خاصة بنا، وكانت تكفينا حقيقة أننا نرى نفس السماء والقمر والشمس. كان أ.أ موجود عن بُعد يشهد مراحل تكوين وبناء شخصيتي، فشهد تغيرات شكلي وشهدت تغيرات شكله وشعره وشواربه، وباح لي أيضاً بأسمه الحقيقي. مع ذلك لم أناديه به اطلاقاً، فأنا أسمي الأشخاص بالأسماء التي أجدها مناسبة لهم. عرف أ.أ مزاجي وتقلباتي، عرف الأيام التي لا أحب التواصل فيها مع أي كائن بشري، وعرف متى أكون في قمة فرحي. عرف ماذا أقرأ وماذا أسمع وكان صريحًا عندما أخبرني بأنه لا يحب ذوقي في الأغاني، وكنت أيضاً لا أحب أغانيه التي يسمعها ولكنها لم تكن مسألة مهمة فكل منا له ذوق وأذن موسيقية مختلفة. علمني حركات من لغة الإشارة والتي أجهل للآن لماذا يحفظها، ولا أعرف لماذا لم أسأله عن ذلك، ربما لأني دائماً أنسى الأسئلة المهمة. عرف أ.أ أنني أحب أن أشرب الشوكولاتة الذائبة رغم أنني اخبرته في بداية تعارفنا أنني لا أحبها، ولا أعرف لماذا كذبت لكنه لم يحرجني ويذكرني بكذبتي وأرسل لي الشوكولاتة لأذوبها وأشربها في أحد أيام ميلادي، عرف كيف أتهرب وعرف الكثير عني. كانت جميع أوراقي مكشوفة له رغم أني لم أكشفها جميعها، هو هكذا يعرف كل شيء. صحيح أننا لا نتفق في كل شيء ولكن كلانا يتفق أن صوت جون لينون مفعوله كمفعول المهدىء، فذات مرة عندما ماتت لي سلحفة كنت أربيها، بكيت بينما كنت أتحدث معه وأحكي له عبر مكالمة فيديو، وهي واحدة من المكالمات النادرة طوال صداقتنا الرقمية، غنى لي يومها عزيز مواسيًا:

Hey Jude, don’t make it bad

Take a sad song and make it better

Remember to let her into your heart

Then you can start to make it better

ورغم صوته الذي لم يكن كصوت جون لينون لا من قريب أو بعيد إلا أنه أدى واجبه وجعلني اهدئ واتوقف عن البكاء. كنت أفكر وقتها أنه ربما لو كان عزيز شخص أخر لضحك على بكائي لموت سلحفة حجمها بحجم إصبعي الخنصر، إلا أنه لم يكن أي شخص، كان يعرف أن الأشياء لا تؤخذ كما هي، بل تؤخذ بالمعنى التي نعطيه لها، وهو كان يعرف أنها تعني لي الكثير. كلما تمر السنين وتتغير الأمور من حولنا كنا نتغير معها ونكبر بطبيعة الحال، ومع هذا التغيير بدأت تظهر فجوات فكرية بيننا، لكننا لم نأخذها بعين الاعتبار، فنحن صداقتنا لا تشبه الصداقات الأخرى ولا يمكن أن نقيسها أو نقارنها بالصداقات التي حولنا، أو هذا ماكنا نحب أن نعتقده. كانت تمر فترات في حياتنا ننشغل فيها بين دراسة وسفر وننسى التكنولوجيا تماماً ولا نتحدث إطلاقا، لكن هذا لم ينقص ابداً من صداقتنا شيء.

مع مرور السنين وفي السنة الثامنة من صداقتنا الرقمية نمت بداخلنا رغبة كنا قد حسمنا رأينا بالرفض فيها، نمت رغبة رؤية بعضنا البعض في أرض الواقع. كان ينمو مع تلك الرغبة خوف لايشبه الخوف الذي نعرفه، كان خوفاً من أن نصاب بخيبة أمل من أنفسنا في أرض الواقع، خوفًا من ألا نكون كما تخيل كل منا الآخر في أرض الواقع، خوف من أن تتغير صداقتنا وتنقص، وخوف من ألا نعود كما كنا أصدقاء بعد أن نرى بعضنا في أرض الواقع. كان يصاحب ذلك الخوف ترقب وفضول وأسئلة مثل: كيف يبدو؟ كيف هي أبعاده في الواقع؟ كيف يمشي؟ هل عندما يشرب الشاي يشربه بهدوء أم أنه يصدر أصواتًا أثناء رشفه؟ كيف سيكون صوته الخام بدون تأثير التسجيل الصوتي؟ كيف سيكون شكله عندما ينعكس ضوء الشمس عليه؟ كيف سيتصرف إن وجد قطة تحتاج مساعدة في الطريق؟ والسؤال الأهم كيف سيبدو وجهه وهو يأكل أم علي؟ لم أكن أحتاجه صديقاً في أرض الواقع، فلدي أصدقاء أخرج معهم ويملون عليّ وقتي، أما هو فصداقته مختلفة عنهم ولم يكن يهمني أن يصبح صديقي في الواقع.

في يوم من الأيام وبعد إتمامنا عقد أي عشرة سنوات على صداقتنا الرقمية، حدث بيني وبين ألف ألف خلاف كخلافات الأشخاص من حولنا والذين لايعيشون صداقة مثل صداقتنا، أو على وجه التحديد حدث إختلال بين فكري وفكره، فكانت ردة فعله أنه تصرف بتصرف لم يكن يليق به أبداً، وتحدث بكلام جارح لم يكن من المفترض أن أسمعه منه فنحن نعيش في يوتوبيا بها قوانين لا تسمح بهذه الأخلاق والتصرفات، لأنها ستفقد كونها يوتوبيا. ذلك الخلاف ترك أثرًا في قلبي شبيه بأثر أقدام مشت على أرض تغطيها الثلوج، وتغيرت بعدها أمور كثيرة بيننا، وبدأت يوتوبيا الخاصة بنا تنهار شيئاً فشيئاً ثم تنافرت أرواحنا وكأنها لم تألف بعضها من قبل قط، وأنقطعت صلتنا ببعض دون أن نرى بعض في أرض الواقع.

أفتقد لوجود أ.أ الرقمي في أوقات كثيرة، ولكن الراشدون يجب ألا يرجعوا للوراء، يجب ألا يفعلوا ذلك إن أرادوا لجرحهم أن يلتأم ويتعافى، مع ذلك أتسائل وأنا أجلس في الشرفة وعيني على الشارع: كيف يبدو وجه أ.أ وهو يأكل أم علي؟

رأي واحد حول “قصة قصيرة: أ.أ”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s