قصة قصيرة: لا يمكن له أن يتركني الآن.

في إحدى أيام فصل الخريف أرتدى جدي ثوبه الأبيض ممسكًا عكازه ثم أخبرني بأنه يشعر بالضجر ويريد أن يمشي ويحرك قدماه فسألته:

– هل أتبعك يا جدي؟ فرد ببرود:

– إن كان لديكِ فضول فأتبعيني، رغم ذلك لا تسألي بل أستمعِي وتأملي.

هززت رأسي بالموافقة رغم أنني لم أدرك تماماً ما يعنيه جدي. فكل ما أردته هو أن أرعاه وأمشي معه فلم يسبق أن مشينا معاً. بيني وبينه تسعة وأربعون عام، أي أن عقل جدي وجسده مر بعشر دورات تغيير من دورة الحياة السباعية بينما أنا ثلاث مرات.

بعد أن خرجنا من منزله سألته:

– ماذا يعني لك الفضول؟

-لا تسألي الآن وألحقيني.

مشينا بجانب بعضنا أمامنا البحر لكنه كان بحرًا يعاني من شح في الماء، شعرت بغرابة من منظره فلم يسبق أن رأيت بحراً قليل الماء. نظرت إلى جدي دون أن أتكلم ووجدت أن ملامح وجهه خالية من تعابير الغرابة، ثم فاجئتنا السماء وهتنت وكأنها سمعت حديث أفكاري لتنقذ البحر الشحيح، فخلع جدي حذائه وخلعت حذائي، ومشينا حفاة على الرمل تحت الهتان ثم رأينا بداخل البحر حوتًا يظهر لنا نصفه العلوي فقط، التفتُ إلى جدي متعجبةً مما يحدث حولنا ولكن وجدت وجهه ساكن خالي من التعابير أو ربما يوحي وكأنه قد شهد مثل هذه الأمور الغريبة من قبل. قررت أن أتجاهل الظواهر الغريبة التي تحصل حولنا وألا أعطيها حيزًا من تفكيري، لم أسأل وأكملت مسيري مع جدي صامتين. كنت سارحةً في اللاشيء أقلد جدي الهادئ فقطع سرحاني بنبرة توحي بأنه سيبوح لي بسرِ لا يعرفه أحد قائلًا بهدوء: في قريتي كان الجميع يعيشون بنمط واحد كل شخص يكرر من سبقه، لم يكن يشتكي أحد من ذلك التكرار وتلك الحياة الرتيبة حتى والدي كان مثلهم. “هل لأنه لم تكن هنالك احتمالات أخرى للحياة أم لأنهم برمجوا أنفسهم على تصديق عدم وجود احتمالات خارج القرية؟” سألت نفسي في عقلي، أضاف جدي: عندما كنت طفلاً كنت كثير السؤال ولكن والدي كان يسكتني ولا يأخذ أسئلتي على محمل الجد رغم أنني عرفت عندما كبرت أن المادة الثانية عشر من إتفاقية حقوق الطفل تنص على” أن من حق الطفل التعبير عن رأيه بكل حرية على أن يؤخذ رأيه بعين الاعتبار” لكن والدي لا يعترف بوجود حياة خارج القرية فكيف سيعترف بوجود حقوق للطفل. عندما زاد طولي ونمت شواربي وعرضت أكتافي كثرت الأسئلة الغير مجابة ونما بداخلي فضول لاستكشاف ما هو خارج القرية. بحتُ لوالدي برغبتي فانفجر غاضبا ولم يأخذ رغبتي على محمل الجد كعادته، فقررت أن أنفذ بجلدي وهربت من القرية تاركًا حياتهم المكررة وتاركًا والدي خلفي. صدقيني ما هو خارج القرية كان يستحق المجازفة ثم أننا نكبُر ونؤخذ على محمل الجد عندما نبتعد عن والدينا. أعترف لي جدي وهو يأخذ نفسًا عميقًا يشبه ذلك النوع من التنفس الذي يعبر به الشخص عن الارتياح من حمل كان يثقل على أنفاسه. لم يكن يحرضني على والداي فكلاهم قد رحلوا للعالم الآخر.

سألت جدي إن كان يريد أن نستمر في المشي تحت الهتان فقال مؤكدًا: نمشي إلى مالا نهاية، فلا نعرف ربما لا يتكرر هذا اليوم. قلت مترددة بعد أن شعرت بالتأثر من قصته: لا شيء يحدث في الحياة التي أعيشها يا جدي، أشعر أن الحياة خالية من المعنى. فنظر إليّ بتعجب دون أن يقول أي شيء ثم مشى بضع خطوات إلى الأمام وهو يغرز بعكازه الرمل فلحقته وقلت: ماذا؟ لماذا أشعر أنك غضبت من كلامي؟ فقال منفعلًا: كيف لا يحدث شيء والعالم مليء بالأحداث والمواقف! وأنت تقولين إن الحياة خالية من المعنى؟ قلت لكِ اتبعيني إن كان لديك فضول ثم أخبرتكِ بألا تسألي مختبرًا فلم تسألي واخترتِ الصمت رغم أننا شهدنا ظواهر غريبة. شريطة الفضول هي أن يتملككِ الشغف للمعرفة، لمعرفة أسرار الكون، للسؤال ولاستكشاف كل ما هو جديد أو بعيد أو غير مألوف. سكت جدي لوهلة ثم أضاف: سأخبركِ عن سر ستعرفين بعده أن الحياة هي….

ثم قُطع حديث جدي بمطر غزير قد انهمر على الأرض وبللنا من رأسنا حتى أخمص قدمينا فرجع جدي إلى سكونه وراح يتأمل البحر وهو يرجع إلى طبيعته ويمتلئ شيئاً فشيئاً بالمطر، ووقف أمام البحر وهو يركز نظره على الحوت الذي بدأ يغمره الماء حتى اختفى، وكنتُ أنا بجانبه منتظرةً منه أن يكمل حديثه ويبوح لي بالسر، حينها رن هاتفي فأجبت على الاتصال فانقطعت الرؤية ولم أجد نفسي إلا تاركةً جدي في حلمي مبللًا بمفرده تحت المطر. جريت في الواقع إلى جدي الراقد في المشفى المصاب بداء عضال لا شفاء له والذي هاتفوني ليخبروني بأنه رحل إلى العالم الآخر. كنت أجري إليه بلا هدى وبغير توازن وأقول في داخلي: لا يمكن له أن يتركني الآن، لا يمكن له أن يتركني بهذا الشكل دون أن يبوح لي بالسر الذي أتشبت به بينما يتداعى اللامعنى من كل ما هو حولي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s