دعوا الحاضر يعانق الماضي بالذكرى
و الغد بالحنين. – جبران خليل، النبي
هذه المقالة تجمع مُخرجات بحثي في إقامة مساحة المقامة في معهد مسك للفنون بالرياض، بعنوان” توثيق اللحظات”حيث كان مشروعي عبارة عن عمل فني شخصي متعدد الوسائط، بعنوان”ما غاب، قد يعود” أُستخدم فيه فيديو عائلي، صوت، وتحف مادية.
كُلي أمل أكون قد وُفقت في عملي الذي أُعيد من خلاله إحياء ذكرى عادة الرحماني التي غابت في عائلتي، للنظر إلى ما وجدت كإنسانة بالغة في طقوسها من مشاهد ومعاني جميلة.
الرحماني أو سابع المولود: هو عادة من الموروث الشعبي في مدينة جدة، مكة، المدينة، وغيرها من المدن، وعُرفت أيضاً في دول أخرى كمصر، حيث يسمونه “السبوع” و يُقال إنها عادة يعود أصلها إلى الفراعنة. في الرحماني يُحتفل بالمولود الجديد في يومه السابع، وتشمل عادةً طقوس الرحماني عشاء بعقيقة المولود، تسمية المولود، زفة للأم مع طفلها حول المنزل والسطح بين القريبات والجارات، توزيع الهدايا على الأطفال، تلبيس المولود زيّ أبيض مزركش مع قبعة رأس مُطرزة، ووضعه على الطراحة أو الغربال، وهو مهاد مُلبس بقماش الستان أو الحرير الأبيض، محشو بقطن ناعم أو اسفنج. تُزين أطرافه بكُلف الدانتيل، الخرز، الترتر، أو اللؤلؤ، ويستخدم في التطريز اللون الوردي للأنثى والسماوي للذكر.
في هذه المناسبة يحمل الأطفال الشموع، يبدؤون النساء بالدق على الدفوف وغناء أهازيج فلكلورية متوارثة تُعبر بعضها في كلماتها عن شكر الله على المولود، وأن يبارك فيه. قد تختلف الأهازيج والطقوس من منطقة لأخرى، ففي مصر مثلاً وجدت أفلام مصرية جسدت طقوس الإحتفال منها: فيلم عيال حبيبة، الحفيد، غلطة حبيبي.
بينت بعض المشاهد إختلاف في الأهازيج التي تُردد والطقوس؛ ففي فيلم غلطة حبيبي يظهر مشهد لسيدة تخطو من فوق مبخرة موضوعة في الأرض حاملةً المولود، إعتقادًا بدفع الشر عنه، وعادةً تكون سبع مرات. أما عن الدق في الهاون-النجر، فهو يُستخدم كأداة تنبيه للمولود لما يُقال له من توصيات، ويُقال أيضاً ليتعود على الأصوات العالية لكيلا يفزع منها لاحقاً.
كطفلة من مواليد التسعينات شهدت بعض من تلك الاحتفالات في عائلتي، ودون العدسة لا وجود لهذا المشروع، فبعد أن وجدت شريط فيديو قديم عند أحد أفراد عائلتي والذي تم تصوير الرحماني فيه، قررت أن أجمع الأشرطة الموجودة الأخرى التي وثقت بعض من احتفالات الرحماني في العائلة خلال العقدين الماضيين، دون أن أعرف ما الذي سأجده فيها بعد تحويلها إلى مقاطع رقمية. دونت ما أذكره عن هذا الاحتفال قبل أن أشاهد محتوى الأشرطة، ووجدت أن ما أتذكره عبارة عن ذكريات ضبابية عن طقوس هذا الاحتفال. كالشموع والهدايا، وصوت عمتي وهي تردد أهازيج الرحماني التي أتذكر بعضها ونحن نرددها خلفها. بينما كنت أشاهد الأشرطة وجدت نفسي في قطار من المشاعر، وأدركت أن هذا الإحتفال فيه نوع من التعاضد بين النساء؛ مشاركة الفرحة بسلامة الأم والترحيب بقدوم المولود والاحتفال به بين أخوته وبين الأطفال الآخرين، وأدركت أيضاً أننا لم نعد نحتفل بالرحماني في عائلتي!
ولأن ما أعرفه يختلف عما تعرفه عمتي التي يرتبط في ذاكرتي هذا الاحتفال بها وبصوتها وهي تردد الأهازيج، فمع ولادة كل طفل جديد في العائلة، كانت الشخص الذي يقوم بالترتيب والتجهيز للرحماني، ابتداء من تزيين وتطريز زيّ المولود ومهاده، إلى تحفيظها إيانا للأهازيج. خضت حوار معها حكت لي ما تتذكره من هذا الاحتفال، وعلمتني كيف كانت تطرز المهاد أو”التبسي” كما تسميه، والأقمشة التي تستخدمها في التطريز. من خلال حوارنا وجدت أن عمتي نسيت الكثير من كلمات الأهازيج التي كُنا نرددها بعدها.
من أهازيج الرحماني:
يا رب يا رحمنِ، بارك لنا في الغلامِ
مولى سعدنا وهنانا وأعطانا مولود جديد
من فرحتنا قمنا غنينا مبروك سابع سعيد
–
يارب البرية بارك لنا في البُنَيّة
في أهزوجة أخرى يُغنى “للداية” وهي المُولِّدة، أي من تحترف توليد النِّساء قديماً
يادايه هري هري
يادايه عين العري
يادايه ما أحلى مشيتك
يادايه إنتي وبزرتك
يادايه ياست الكل
يادايه منديلك فُل
أهزوجة أخرى عبارة عن توصيات للمولود، تُردد بنوع من المُزاح
إسمع كلام أمك، لا تسمع كلام أبوك
وأخريات:
غربلوا ياغربلوا حتى النونو يتغربل
غربلوا ياغربلوا حتى اللوز يتغربل
–
العليا العليا القبة الخضرا المجلية
سيدي رسول الله بيض الله وجهه، ويرد الحاضرين ( يستاهل )
مقطع صوتي لأهزوجة “يارب يا رحمنِ” مأخوذ من شريط فيديو عائلي
الأمر المثير للذِكر هُنا، أنه خلال فترة معرض الإقامة زارني أشخاصاً من مُدن مختلفة، وأجيال مختلفة لم يسبق لهم أن سمِعوا عن هذه العادة، فوجدت نفسي أحكي لهم بحماس ما أعرف من تجربتي الشخصية وبحثي، وأجد أن أحد أدوار الفن هو بناء جسور تصلنا بالآخرين.
غرضي لم يكن يُركز على إعادة إحياء ما تلاشى وغاب، بل إعادة إحياء ذكراه، أرشفته، إثبات حدوثه، ووجوده في ذاكرتي من خلال تجسيده بهيئة أخرى. هذه الهيئة المختلفة قد أكون جسدتها بهذا العمل.
من هُنا أدركت أهمية التوثيق، كونه نقطة وصل بين ماضينا، حاضرنا ومستقبلنا. هو وسيلة نرى من خلالها التحولات التي مررنا بها، و نستحضر لحظات مضت عندما نشعر بالحنين. هو وسيلة أيضاً لجعل تلك اللحظات تعيش معنا.
هُنا أدعوكم لتوثيق اللحظات في حاضركم، لكونها ستصبح ذكريات ثمينة في المستقبل. فالتوثيق ليس مجرد إلتقاطنا لصورة وفيديو، أو كتابة ما عشناه في دفتر يومياتنا، بل هو مادة تُذكرنا بما نسيناه خلفنا، تُعرفنا بأنفسها، بثقافتنا وبالآخرين، شيء قد يرجعنا أيضاً لأنفسنا إن تُهنا في يوم ما، أو إن خانتنا الذاكرة. أرى التوثيق سفرًا عبر الزمن.