مذكرات الأسفار والأخبار: بيتهوفن في جزيرة سرنديب

أحب عندما تختارني مدينة ما،

فلا يكون عليّ سوى أن أُلبي النداء وأزورها.

 صوت النوارس عند البحر و جُدجُد الليل، وصوت الطائرات واحدة تلو الأخرى تعبر فوق سماء بيتي، كل أصوات جدة اليومية المألوفة لدي، تبدلت بعد وصولي مطار باندارانايكا، ودخلت في صوت مدينة أخرى، مدينة أزورها دون نية مسبقة لزيارتها أو تخطيط مطول، ودون أي توقعات. كنت أخطط للسفر لغرض، ونيتي كانت رحلة هادئة إلى جزيرة دافئة، والوجهة كانت اليونان، لكن لا طقس اليونان ولا السيولة المالية كانتا تتوافقان مع ما أريد وما أملك.

رن المنبه الساعة السابعة صباحًا فقفزت مفزوعة من سريري، وبتعب طفيف في جسمي إثر الرحلة الطويلة، والتنقلات من مدينة لأخرى لأصل إلى أول الأشياء التي جئت من أجلها، إلى” اليوغا ريتريت” قمت من السرير وأنا أسأل أكان لابد من هذا العناء؟ ومن يستيقظ “قبل الشحادة وبنتها” متعنيًا لممارسة اليوغا في الأدغال؟ أسئلة كهذه تفتح باب للتفكر حول القرارات التي نقدم عليها في حياتنا متبعين ما يمليه علينا صوتنا الداخلي.  شجعت نفسي وأنا أقول” ما قطعت كل هذه المسافة عشان أنام” أخذت نفس وأنا أُبعد الناموسية وأقوم من السرير، صليت الفجر وارتديت ملابس مريحة وحذاء المشي وخرجت إلى كوخ اليوغا الذي يبعد عن الكوخ الخشبي الذي اسكنه ما يقارب السبعة دقائق مشيًا على الأقدام بين الأشجار العالية. في بداية الطريق قررت أن أخلع الحذاء وأمشي حافية تطبيقًا لمفهوم التأريض / Earthing لأتخفف من التعب في جسمي، أتوازن وأتكيف مع الأرض التي وصلت لها. مشيت فوق التربة الندية المليئة بحشرات لا تُرى بالعين المجردة، والتي يغطي بعضها العشب، أوراق أشجار صفراء وأغصان متساقطة. كنت أمشي وعقلي يقظ منتبه لكيلا أدعس على النمل الأسود، أو علقيات ال Leech أو أي شيء قد يجرح قدمي.

وأخيرًا، جلست متمددة على بساط اليوغا في كوخ على الهواء الطلق، يطل على الأدغال وتحوطه الأشجار العالية من كل الجهات. استقبلتنا مدربة اليوغا بابتسامة، ثم اشعلت بالكبريت عود خشبي برائحة القرفة والصنوبر وثبتته على رف خشبي بجانب تمثال لبوذا، تركته يحترق وجلست أمامنا بحركة هادئة مرنة وهي تطلب منا أن نجلس بوضعية مريحة ونغمض أعيننا، نركز على نفسنا، ونسمع الأصوات حولنا، فتربعت واغمضت عيني، فهبت نسمة هواء منعشة فارتعش جسدي إثرها. بدأت أتتبع الأصوات، صوت وراء صوت، صوت طير يغرد بلحن عذب لم أسمع مثله من قبل، تتبعت صوته واستطعت أن أُميز مكانه، كان يأتي من يساري، من شجرة عالية.  قفز عقلي لصوت آخر، صوت أحجار صغيرة تتدحرج مع تراب من أعلى الجبل على سقف الكوخ الذي نجلس فيه، ثم لاحظت صوت الرياح تحرك أوراق الشجر، بعدها لاحظت صوت تحمله الرياح من الأسفل، قادم من بعيد و بالكاد أسمعه، كانت مقطوعة بيتهوڤن Für Elise  ابتسمت وسألت بداخلي: هل فعلاً أسمع بيتهوڤن أم أنني أهلوس إثر التعب وقلة النوم واختلاف التوقيت؟ أختفى الصوت سريعًا وقطع تشوش ذهني صوت المدربة وهو تطلب منا أن نفتح أعيننا بهدوء لنبدأ كلاس اليوغا.

بعدها بأيام كنت في مدينة أخرى جبلية أتناول فطوري في كافيه مزدحم بالسُياح الأوروبيين. أمامي طبقي المكون من خبز محمص مع البيض والأفوكادو، كنت مستمتعة بوجبتي وأنا أتأمل ببصري على يميني غِربانًا يتناقرون فوق سطح بيت على بُعد مسافة مني، حينها سمعت المقطوعة ذاتها، ظل الصوت يقترب إلى أن صارعاليًا وضائعًا بين ضوضاء الشارع وصوت الشاحنات، هذه المرة كنت متأكدة من سماعي نغمة بيتهوفن، ذات النغمة القديمة المعروفة المألوفة للجوالات التي ظهرت في بداية الألفيات، لكني لم أر مصدرها، فكل ما كنت أراه في الشارع هو شاحنة زرقاء كبيرة، هل يصدر الصوت منها؟ كان الصوت جزء من صوت المدينة، كصوت صفارات الإسعاف في مدن أوروبا مثلًا. أصبح الصوت جزءًا اساسياً من يومي في سريلانكا، حتى أنني اعتدت الاستيقاظ عليه قبل أن يرن منبهي، ولا أخفيكم أنه كان يبعث شيء من الطمأنينة في داخلي كل صباح، وربما يبعث الطمأنينة على قلوب ساكني وزوار المنطقة ايضاً.

في الصباح ما قبل الأخير لي، كنت أفطر في مدينة بحرية، تحديدًا في الفناء الخارجي للهوستيل الذي أقيم فيه بينما تحت قدمي ينام كلب صاحبة الهوستيل، والذي اعتاد عليّ. كان الفناء به أربع طاولات خشبية، كنت أجلس بمفردي في كرسي في إحداها. أمامي المطبخ الخارجي، وخلف ظهري غرفة الاستقبال، نظرت فرأيت الشابة البريطانية التي تعمل في الاستقبال تجلس على *بين باغ* وفي يدها طبق، ابتسمت لي وهي تومئ برأسها فابتسمت، كانت الشابة نحيلة بشعر أسود طويل، ترتدي شورت أسود وبلوزة سوداء بدون أكمام تكشف عن بضع الوشوم في كتفها وظهرها. حينها سمعت الصوت، كان قريباً جدًا مني، فداهمني الفضول وتملكتني رغبة عارمة في أن أعرف مصدره قبل رحيلي، فتركت قهوتي وطبق الفاكهة على الطاولة وقمت على عجل فاستيقظ الكلب ومشى مُبديًا إنزعاجه من حركتي المفاجئة، مشيت باتجاه البوابة متتبعة الصوت، فخرج أمام وجهي من المطبخ الجانبي للفناء الشاب الذي يعد الافطار في الهوستيل، ابتسم لي فابتسمت، ومشى بخطوات سريعة باتجاه الباب وفتحه، فمشيت خلفه وخرجت معه، نادى بكلمات لا أفهمها، فاذا بعربة صغيرة ك ” التوك توك” كان الصوت صادرًا منها. اقتربت العربة من الباب، فرأيت ما بداخلها، خبز! إذًا الصوت من عربة الخبز، ضحكت وأنا أنظر إليها وأخرجت جوالي وصورت العربة وهي تقف أمام البوابة، فابتسم الشاب لي وهو يتناول الخبز من الرجل الذي يسوق العربة، فقلت:

– I was wondering where this Beethoven tone is coming from!

– Yes yes we call this Choon Paan

قال بإنجليزية بسيطة وهو يبتسم ويهز رأسه. كانت نغمة بيتهوفن بمثابة تنبيه للسكان بقدوم العربة وقربها، حيث تدور حول الحي لبيع الخبز الطازج. اتضح لي لاحقاً أن نغمة بيتهوفن هذه لا تعني للشعب السيريلانكي سوى الخبز، فيسمون العربة Choon paan truck  باللغة السنهالية، أي عربة خبز الموسيقى. أكلت يومها من الخبز الذي اشتراه الشاب من العربة بعد أن أعد لي طبق به بيض مخلوط، بجانبه مربى المشمش والزبدة. أكلت الخبز وأنا أتخيل صوت نغمة بيتهوفن تدخل بطني وتستمر في لحنها إلى مالا نهاية.

ــــــــــــــــ

*سرنديب* إسم لسريلانكا كما ذكر الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s